الأخلاقيات والسياسة
الحياة بدون أخلاق مستحيلة، فكل علاقات البشر تستند إلى معايير قبول، فمثلًا لو أزيل عنصر الثقة لاستحالت التعاملات بين البشر، فنحن نشتري ونبيع ونتزوج ونتوظف، كل ذلك بناء على ثقتنا بالتزام الأطراف، وقل ذلك عن الصدق والعدل وغيرهما من الفضائل.
وهناك صراع أزلي بين فكرة المصلحة وفكرة الفضيلة، فمقتضيات الحياة العملية تضعنا في مواقف تتعارض مع مسلماتنا الأخلاقية أو مبدأ الفضيلة.
خدعة الحرب أم نزعة الفضيلة
أعظم تلك الإشكاليات تتجلى في الممارسة السياسية على مستوى الدول، حيث يمثل كل لاعب سياسي أمة سياسية محددة ومصالحها، فهل السياسة العليا هي حرب “والحرب خدعة”، أم هي امتداد للعلاقات الاجتماعية الفردية فتتغلب فيها نزعة الفضيلة الفردية.
فالنزعة المثالية تقول أنه لا فرق، فالأخلاق هي الأخلاق بغض النظر عن المترتبات، والنزعة المادية تقول بأن الغاية تبرر الوسيلة خاصة عند ملامسة السقف السياسي.
والفيلسوف الألماني “كانت” فصل فيما أسماه “أخلاق الواجب”، حيث وضع قاعدة عدها الأساس وهي المبدأ الأخلاقي السليم الذي يمكن تعميمه على البشر والتزامه في كل المواقف، ولكن بقي السؤال عالقًا ونحتاج إلى مسطرة أعلى من ذلك!
سيرة النبي مثالًا
حين ننظر للقرآن وحياة الرسول نجد الأمر بالوفاء بالعقود والعهود وعدم استخدام نذالة العدو حجة للنزول إلى مستواه وعدم الإستسلام للعواطف لمجافاة العدل، وفي ذات الوقت نجد في تطبيقات السيرة النبوية مواقف كاشفة على مقارعة الدهاء بالدهاء، وما خروج الرسول في الهجرة مع حفظ أموال قريش ولا صلح الحديبية وإدارة مترتباته إلا أمثلة على الموازنة بين متطلبات الالتزام الأخلاقي ومقارعة الذكاء بالذكاء، وهذا يعني أنه ليس هناك ” كتلوج” تفصيلي لكل حالة محتملة، فحالة الحرب كمؤتة استخدم فيه خالد ” الخدعة الاستراتيجية لإخراج جيشه من أرض المعركة” وكان ذلك أمرًا محمودًا عسكريًا، وفي يوم الهجرة رد الرسول أنوال قريش لها وأتقن التخفي للخروج من بين أيديهم فكان أمرًا محمودًا.
هذا دعى البعض للقول بتزاحم القيم في مواقف مختلفة، فقيمة الأمانة في رد الأموال لأهلها في الهجرة، وقيمة النجاة بالنفس والخروج من الحصار، يمكن التوفيق بينهما في تلك الحالة، وفي موقف آخر قد تصعد قيمة على حساب قيمة، كالتاجر قد يفاصل مبلغ صغير في دكانه في موقف تجاري وقد يتبرع بالملايين في موقف آخر فيه إحسان، ففي الأولى اقتضت التجارة الحرص وفي الثانية اقتضت الخيرية الإنفاق.
هكذا تطرح الحياة علينا نفسها في مواقف وظلال، ولكن الحفاظ على الأخلاق العليا مطلب ديني لا ينفك عن الدين، ومراعاة الواقع تعني التدقيق في كل موقف، حتى لا ننفلت من كل قيد أخلاقي فلا تبقى حينها المصلحة ولا الدين ولا الخلق.