المسافة بين ما ينبغي أن يكون، وما هو كائن
لا زال كثير من الأحبة يراسلني طالبا للنصح في عمل دراسة عن ظاهرة مثل: التربية، أو الوحدة السياسية، أو الإعلام، أو قيم العمل، وهذا أمر محمود …، ولكن..!
لكن حين أسأله عن العينة التي سيدرسها، وكيفيات تحصيل المعلومة عنها، أكتشف أن الدراسة استنباطية، نظرية لا علاقة لها بالواقع على الأرض، ولا ترى في الواقع مصدرا للمعرفة، هي ذات طابع تقررت فيه النتائج مسبقا، والمطلوب شرحها، فهل هناك مشكلة؟
العمل النظري الفلسفي، أو حتى التقريري ذو الطبيعة الدينية حسن، ومطلوب أحيانا، ولكن الأمم التي تُحرم من الاتصال بالواقع، ومختبر الواقع، لا يمكنها التقدم، لأنها لا تدرك المسافة بين ما ينبغي أن يكون، وما هو كائن.
لأن ما ينبغي أن يكون معروفا مسبقا، وهو كمالات الأشياء، فالتربية تريد مثلا الإنسان الصالح، أو المواطن الصالح، أما طريق الوصول إلى هذا الصلاح، فهو ابن معرفة واقع هذا الإنسان، وبيئته.
ولذلك يفشل الوعظ في تغيير واقع المجتمعات، بينما ينجح التخطيط المحكم في إحداث التحولات…، لأن الأول يتكلم عما ينبغي، والثاني يرصد ما هو كائن أولا، ثم يستهدف الصعود به بالتدرج من خلال البدائل، التي تتيحها الظروف الموضوعية.
لقد قدم ابن خلدون منهجيته الثورية في القرن الخامس عشر قالبا الهرم من الاستنباط إلى الاستقراء…، والتفت الغرب إلى عظم تلك الثورة، التي فرقت بين العصور الوسطى والحديثة، بينما لم نستفد نحن شيئا من ذلك الفتح المذهل.
حين تتغير زاوية نظرنا للعالم، يبدأ العصر الجديد.