بين العواطف والواقع

ملأنا البر حتى ضاق عنا … وماء البحر نملؤه سفينا
فالشاعر لا يجد أحدًا يدقق في صحة الدعوى … فصحة الدعوى هنا مرتبطة بما تثيره من عواطف لا بما تحيل عليه من وقائع.
حسابات الواقع قد تشير إلى أن تعداد قوم الشاعر ومساحة ما يغطونه من الأرض والبحر مقارنة بمساحة العالم بره وبحره لا تساوي شيئًا …
فقطعًا الشاعر لم يقلها في معرض اتخاذ قرار التخطيط الاستراتيجي، ولكن في إطار الدعاية السياسية، وبالتالي لم يهتم بالحقيقة ولكن ركَّز على التأثير النفسي.
فالوظيفة التي يلعبها البيت لا تتعلق بكشف الحقيقة بل بالروح المعنوية للقبيلة، وهو أمر معتبر في سياقات معينة … وأشبه بالإعلام “السعيدي” نسبة لمحمد سعيد الصحاف في عهد أم المعارك وأحمد سعيد في صوت العرب إبان النكسة …
هذا التمييز بين مقام التفكير الاستراتيجي والحسابات، ومقام الإعلام ورفع المعنويات في أوقات الشحن العاطفي، يصبح ضبابيًا، وتختلط الأوراق عند الجمهور العام … فهل يسقط المثقفون في الفخ أيضًا …؟
هذا ما عبر عنه هتلر وهو يوصي مستشاره الإعلامي جوبلز: “بسِّط الخطاب وركزه للعوام”. فسأله جوبلز: وماذا عن المثقفين سيدي؟ أجابه هتلر: “المثقفون في الأزمات يتحولون لعوام”، فالعواطف معدية …
بهذا المعنى لا يبقى محتفظًا بمسافة بين الدعاية والحقيقة إلا القادة ومصممو الدعاية، لأنهم يقومون بفعل واعٍ ومقصود، فيسلطون الضوء على جزء من المسرح ويتركون الباقي في العتمة لحين الحاجة له في مشهد آخر …
القدرة على تجاوز شراك الدعاية السياسية تكمن في إدراك وظيفة الخطاب التعبوي في مقابل الخطاب الواقعي، فالمسافة بينهما شاسعة بقدر الفارق بين ادعاء عمرو بن كلثوم وواقع قومه … وكلاهما موجود في الحياة …
الخلاصة: الكثرة تتغذى على العواطف والقلة تحسب بالعقل … فاعرف من تحاور وتفهم الدوافع … فالناجون من سيل العواطف دومًا قلة …