مقالات الدكتور جاسم سلطان

 الوعي الفكري ومواجهة الأفكار القاتلة في الفكر المعاصر

شهدت المجتمعات الإسلامية خلال العقود الستة الماضية تقلبات فكرية متسارعة، تنقلت فيها بين أحلام الكفاح الشيوعي، ثم الحلم القومي العربي الذي بدأ يتراجع بعد هزيمة 1967، ليصعد لاحقًا الحلم الإسلامي. لكن في جميع هذه المراحل، لم تكن المشكلة في كِبر الأحلام، بل في عجزها عن فهم الواقع والتعامل معه بواقعية. فقد ظنّت تلك التيارات أن صياغة المفاهيم المجردة وتحفيز العاطفة الجماهيرية كافيان لإقلاع مشروع النهضة.

في التجربة الإسلامية الأخيرة، وتحديدًا مع الأستاذ المودودي، بدأت رحلة خطرة من التجريد المفاهيمي، خصوصًا في كتابه “المصطلحات الأربعة”، حيث انتهى إلى خلاصات خطيرة، أبرزها أن الإسلام وجودًا وعدمًا مرتبط بالحاكمية السياسية، مما يعني أن أي مجتمع يفتقد هذا البُعد هو -وفق هذا التصور- مجتمع غير مسلم، حتى وإن كان من التاريخ الإسلامي ذاته.

ثم التقط هذه الفكرة الأستاذ سيد قطب في سجنه وعمّقها، مُعلِنًا أن الإسلام سيبدأ من جديد، من خلال “الطليعة المؤمنة” التي لم تتشكل بعد، وأن ما سبقها لا يُمثّل الإسلام. وقد حذّر العلامة أبو الحسن الندوي من هذه المنهجية في كتابه المهم “التفسير السياسي للإسلام” (1978م)، مؤكدًا أن هذا النمط يبتعد عن روح الإسلام وأهدافه، ويحمل خطرًا كبيرًا على طبيعة المشروع الإسلامي نفسه.

قال الندوي محذرًا: “هذا منهج يختلف عن المنهج الإسلامي الأول في الروح والدوافع، والنفسية والعقلية، والأهداف والغايات، والمثل والقيم، ويضعف ما جاهد له الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه…”. كما أضاف: “وقد يكون تحولًا لا رجعة بعده إلى الأصل والمصدر.”

ومع انعزال قطب لاحقًا عن الواقع وتعميقه لهذه الأفكار، واشتراطه إعلان الشهادة من جديد لمن أراد الانضمام إلى “الطليعة”، نشأت جماعات أكثر تطرفًا، سالت فيها الدماء وازدادت فيها الكوارث، وكل ذلك باسم مشروع “نهضة إسلامية”. تلك الأفكار تحوّلت إلى ألغام وكُرات من نار، رغم إخلاص أصحابها من حيث النوايا، لكنهم أغفلوا حقيقة الاصطدام بالواقع الصلب، وهو المحك الحقيقي لأي فكرة.

عند اختبار صلاحية الأفكار في بيئة الواقع البشري المعقد، تبرز قدرة هذه الأفكار -أو عجزها- عن تقديم إجابات لأسئلة الحياة اليومية، ومراعاة تعقيدات الواقع وشروطه. إلا أن التجريد والتعميم الذي ساد في كتابات المودودي وقطب، بقي يملك جاذبية خاصة، تأسر العقول التي لم تختبر الحياة جيدًا، ولا تزال تتعلق بالمفاهيم النقية المجردة، التي تسقط أحكامًا نهائية على غيرها بمجرد تعريف واحد.

اليوم، وبعد تجربة هذه الأفكار في الواقع، وبعد أن رأينا نتائجها بشكل ملموس، يعود بعض الناس إلى تبنيها وكأنها شيء جديد. الوعي بالواقع يتعرض لانقطاع، فيُبهَر الجيل الجديد بما أبهر من سبقه، ويقع في فخ تكرار المسار ذاته.

لهذا، فإن نصيحة الشباب اليوم هي أمران:

  1. قراءة كتاب الإمام أبو الحسن الندوي “التفسير السياسي للإسلام”، وكتاب “دعاة لا قضاة” للأستاذ حسن الهضيبي.
  2. محاكمة الأفكار بمعيار الواقع، وفهم مدى إمكان نفاذها فيه، حتى لا تبقى معلقة في الهواء، منفصلة عن الأرض التي يعيش فيها الناس.

الخلاصة: الأفكار القاتلة تُعيد إنتاج نفسها، وإذا لم يمتلك الجيل الجديد الوعي والحصانة الفكرية، فسيكرر نفس المسارات غير المنتجة التي سلكها من سبقوه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى