النسق القرآني ومشروع الإنسان
التروس الصغيرة في الساعة لا تسمى ساعة، وهي تكتسب معناها في نظام الساعة لا خارجه، ولا معنى للجزء بدون . سياقه الكلي.
نعمتان يُساء استخدامهما العقل والدين فالبعض يستخدمهما؛ ليزداد سموا، والبعض ليتحلل من مقررات الأخلاق. العيب ليس في الأداتين، لكن في غلبة الشهوات على الإنسان؛ حيث يستطيع تبرير الحلاله من عرى الأخلاق بأي منهما. ففي فضاء العقل متسع، وفي الحيل الدينية متسع، وفي كل الأحوال هي تعبير عن غلبة الشهوات.
الشهوات ليست بالضرورة كما يتبادر للعقل – شهوة البطن والفرج فقط، إنما هناك ما هو أخطر كشهوة التسلّط والتجبر، والمال، والمنصب، والظلم والانتقام والحسد والكراهية والاستعلاء وفي كل تلك الحالات ينحرف القلب عن الصراط وتضيع البوصلة.
إن الضلال قد يأتي بسبب سوء المنهج وطرق التفكير، وقد يأتي بسبب سوء الطوية وانحراف القلب، فالشرق اتبع آباءه وسادته فضل وأضل، والغرب اتبع سادته وكبراءه فضل وأضل أيضاً؛ لذلك وصفنا الغرب في قرونه الوسطى بالظلام، وكذلك الجاهلية قبل الإسلام، وفي الحالتين كلتيهما كان منهج الفكر والتلقي محتلاً في مسلمانه ونتائجه، فأورث جهالة استمرت مئات السنين. والحراف القلب كثيراً ما كان سبباً في إصلال الأفراد والجماعات، وسبباً في ابتعادهم عن قبول الحق بعدما استبان لهم؛ لذلك يعتبر فساد المنهج وفساد القلب أفتي الآفات في كل عصر واختلالهما طريق الهوان الإنساني.
والحل يكمن في مسألة الوعي بالاتجاه الفكري، والفهم السبوي لغايات الدين السامية، ممهدة بذلك لوعي ذاتي لمطلب الدين نحو التسامي الإنساني، ووجود الصورة الكلية التي سنحاول أن نرسمها في هذا البحث، كمحاولة الضبط المسار.
كل ما سنذكره في الكتاب هو محاولة لفهم الدين، تقابلها محاولات ذات طابع ،فقهي، فلسفي، صوفي أو سلفي، إضافة إليها المحاولات التي تؤدلج الدين، وكلها تنتج أنواعاً مختلفة من التدين؛ لأن النص الذي يغلب عليه الدلالة الظنية سيسمح بهذه القراءات المتعددة. ومن حق جميع المحاولات أن تعرض نفسها على العقل المسلم؛ لأنها جميعاً عبارة عن محاولات سمح بها لكنها ليست الدين ذاته، وليس أي منها هو مراد الله على وجه اليقين. النص،
عن ما ينبغي التنويه إليه هو أن على القارئ أن يعرف بأن النص يستنطق من خلال المنهج الذي هو نحت بشري، ونحن في مقاربتنا ومنهجنا هنا سنبتعد تجزئة القرآن، وذلك عبر دراسته كنسق متكامل يخدم بعضه البعض، أو على الأقل هذا ما نزعم . أننا سنحاوله.
لقد عنونا هذا الكتاب بـ “مشروع الإنسان – النسق القرآني: قراءة قيمية راشدة، ونقصد به فهم الإسلام من خلال تبيين معالم نسقه القيمي، وجعل هذا الأخير مرجعاً تندرج فيه كل التفصيلات وترجع إليه.
دعوى الكتاب تقوم على أنه حين افتقدنا النظرة لنسق قيم الدين واختلت مفاهيمه الكبرى، واختلطت دوائر فعل النص؛ فقد الدين فاعليته، وأصبح جزءاً من المشكلة بدلاً من أن يكون جزءاً من الحل، حيث إن الاستدعاء الفردي للنصوص من غير النظام الكلي الذي تشتغل عليه النصوص هو سبب أساسي في إشاعة الاضطراب في كل أوجه الحياة داخل البيئة الإسلامية إلى حد التناقض المفضي للهلاك، فما كان صالحاً من بساطة الرؤية في البدايات لم يعد مجدياً في عصر التعقيد والبيئات المفتوحة.
من خلال هذا الكتاب نطمح إلى أن نطرح رؤية للدين من زاوية النسق القيمي العميق، بحيث تتساند القيم في صناعة التصور دون تشتت تضيع معه الصورة الكلية. وما أتمناه في بحثي هذا؛ أن يرى القارئ معي قيمة النسق، وأن يجده حرياً بالتبني، بديلاً عن النظرة المجزأة للدين؛ لتختفي تلك الاستدعاءات المجتزأة، والتي وصفها القرآن بـ “أفتؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض“، و الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عضين، فالحالة التجزيئية أشبه بشخص يشتري قطع السيارة من أصغر جزء إلى أكبر جزء بطريقة منفردة، ويعتقد أن لديه سيارة. إن الفرق شاسع بين السيارة في كلّها المركب، وبين أجزائها عندما تكون لا تسمى سيارة إلا إذا شكلت وحدة واحدة، أما أجزاؤها فهي لا تعدو أن تكون أجزاء وقطعاً. إن استبدال المنظور الشائع والمجزأ بمنظور – كلي متماسك ليس بالأمر اليسير، لكنه المستقبل، وبدونه سيكون فشل محقق. منفصلة فهي
في هذا الكتاب سنبحث عن النسق الأكبر الجامع فقط دون استعراض للأنساق الصغرى التي تنتظم فيه مثل: تسبق الجبر والاختيار، النسق الذي تستدعى فيه سنن الكون والأنفس النسق الذي تستدعي به التركية وقضية الحرب، نسق قضية المرأة.
لقد تضمن بحثنا هذا المقدمة وتتحدث عن السياقات العامة لمحتوى الكتاب ثم أتبعناها بتمهيد عام حول ماهية القيم والنسق وأهميته وأثر غيابه في الدين الواقع. ثم بفصل أول : يتحدث عن منزلة الإنسان في الوجود. وفصل ثانٍ: تناولنا فيه الأمانة التي حملها الإنسان. ليتبعه فصل ثالث: تطرقنا فيه إلى بيان الأبعاد الثلاثة الأهم في مشروع الدين. ثم فصل رابع: يتمثل في أبعاد العمل الصالح. ثم فصل خامس ذكرنا فيه نسق العيش الإنساني المشترك. وأخيراً فصل سادس كان حول تداخل الدوائر الثلاث، وهي: الاعتقاد، والمقررات العامة والحقوق ثم خاتمة.